الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
وأيضا فلو كان نقل التراب واجبا في التطهير لاكتفى به فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى المقصود وهو تطهير الأرض.6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط».قال أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي- المعروف بالقزاز- في كتاب تفسير غريب صحيح البخاري الفطرة تنصرف في كلام العرب على وجوب أذكرها لترد هذا إلى أولاها به.فأحدها: فطرة الخلق فطره: أنشأه والله فاطر السموات والأرض أي خالقهما والفطرة الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبلهم على فعلها وفي الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» قال قوم من أهل اللغة: فطرة الله التي فطر الناس عليها: أي خلقه لهم وقيل: معنى قوله: «على الفطرة» أي على الإقرار بالله الذي كان أقر له لما أخرجه من ظهر آدم والفطرة زكاة الفطر.وأولى الوجوه بما ذكرنا: أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه وجبل طباعهم على فعله وهي كارهة ما في جسده مما هو ليس من زينته.وقد قال غير القزاز: الفطرة هي السنة.واعلم أن قوله في هذه الرواية: «الفطرة خمس» وقد ورد في رواية أخرى: «خمس من الفطرة» وبين اللفظتين تفاوت ظاهر فإن الأول ظاهره الحصر كما يقال: العالم في البلد زيد إلا أن الحصر في مثل هذا: تارة يكون حقيقيا وتارة يكون مجازيا والحقيقي مثاله ما ذكرناه من قولنا: العالم في البلد زيد إذا لم يكن فيها غيره ومن المجاز: «الدين النصيحة» كأنه بولغ في النصيحة إلى أن جعل الدين إياها وإن كان في الدين خصال أخرى غيرها وإذا ثبت في الرواية الأخرى عدم الحصر- أعني قوله عليه السلام: «خمس من الفطرة»- وجب إزالة هذه الرواية عن ظاهرها المقتضي للحصر وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة أيضا:«عشر من الفطرة» وذلك أصرح في عدم الحصر وأنص على ذلك.و«الختان» ما ينتهي إليه القطع من الصبي والجارية يقال: ختن الصبي يختنه ويختنه- بكسر التاء وضمها- ختنا بإسكان التاء.و«الاستحداد» استفعال من الحديد وهو إزالة شعر العانة بالحديد فأما إزالته بغير ذلك كالنتف وبالنورة: فهو محصل للمقصود لكن السنة وهو الأول: الذي دل عليه لفظ الحديث: فإن الاستحداد استفعال بالحديد.و«قص الشارب» مطلق ينطلق على إحفائه وعلى ما دون ذلك واستحب بعض العلماء إزالة ما زاد على الشفة وفسروا به قوله صلى الله عليه وسلم: «وأحفوا الشوارب» وقوم يرون إنهاكها وزوال شعرها ويفسرون به الإحفاء فإن اللفظ يدل على الاستقصاء ومنه: إحفاء المسألة وقد ورد في بعض الروايات: «أنهكوا الشوارب» والأصل في قص الشوارب وإحفائها وجهان أحدهما: مخالفة زي الأعاجم وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح حيث قال: «خالفوا المجوس» والثاني: أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة وأنزه من وضر الطعام.و«تقليم الأظافر» قطع ما طال عن اللحم منها يقال: قلم أظفاره تقليما والمعروف فيه: التشديد كما قلنا والقلامة ما يقطع من الظفر وفي ذلك معنيان أحدهما: تحسين الهيئة والزينة وإزالة القباحة من طول الأظفار والثاني: أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة وهذا على قسمين:أحدهما: أن لا يخرج طولها عن العادة خروجا بينا وهذا الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوب فإنه إذا لم يخرج طولها عن العادة يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ وأما إذا زاد على المعتاد: فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة وقد ورد في بعض الأحاديث: الإشارة إلى هذا المعنى.و«نتف الآباط» إزالة ما نبت عليها من الشعر بهذا الوجه أعني النتف وقد يقوم مقامه ما يؤدي إلى المقصود إلا أن استعمال ما دلت عليه السنة أولى.وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة وإزالة شعر الإبط فذكر في الأول الاستحداد وفي الثاني النتف وذلك مما يدل على رعاية هاتين الهيئتين في محلهما ولعل السبب فيه: أن الشعر بحلقه يقوى أصله ويغلظ جرمه ولهذا يصف الأطباء تكرار حلق الشعر.في المواضع التي يراد قوته فيها والإبط إذا قوي فيه الشعر وغلظ جرمه كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها فناسب أن يسن فيه النتف المضعف لأصله المقلل للرائحة الكريهة وأما العانة: فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط فزال المعنى المقتضي للنتف رجح إلى الاستحداد لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير معارض.وقد اختلف العلماء في حكم الختان فمنهم من أوجبه وهو الشافعي ومنهم جعله سنة وهو مالك وأكثر أصحابه: «هذا في الرجال وأما في النساء: فهو مكرمة على ما قالوا».ومن فسر الفطرة بالسنة فقد تعلق بهذا اللفظ في كونه غير واجب لوجهين أحدهما: أن السنة تذكر في مقابلة الواجب والثاني: أن قرائنه مستحبات.والاعتراض على الأول: أن كون السنة في مقابلة الواجب وضع اصطلاحي لأهل الفقه والوضع اللغوي غيره وهو الطريقة ولم يثبت استمرار استعماله في هذا المعنى في كلام صاحب الشرع صلوات الله عليه وإذا لم يثبت استمراره في كلامه صلى الله عليه وسلم لم يتعين حمل لفظه عليه.والطريقة التي يستعملها الخلافيون من أهل عصرنا وما قاربه أن يقال: إذا ثبت استعماله في هذا المعنى فيدعى أنه كان مستعملا قبل ذلك لأنه لوكان الوضع غيره فيما سبق لزم أن يكون قد تغير إلى هذا الوضع والأصل عدم تغيره.وهذا كلام طريف وتصرف غريب قد يتبادر إلى إنكاره ويقال: الأصل استمرار الواقع في الزمن الماضي إلى هذا الزمان أما أن يقال: الأصل انعطاف الواقع في هذا الزمان على الزمن الماضي: فلا لكن جوابه ما تقدم.وهو أن يقال: هذا الوضع ثابت فإن كان هو الذي وقع في الزمان الماضي فهو المطلوب وإن لم يكن ن فالواقع في الزمان الماضي غيره حينئذ وقد تغير والأصل عدم التغير لما وقع في الزمن الماضي فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال في الزمن الماضي وهذا- وإن كان طريفا كما ذكرناه- إلا أنه طريق جدل لا جلد والجدلي في طرائق التحقيق: سالك على محجة مضيق وإنما تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع ظنا وأما إذا استوى الأمران فلا بأس به.وأما الاستدلال بالاقتران: فهو ضعيف إلا أنه في هذا المكان قوي لأن لفظة الفطرة لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة فلو افترقت في الحكم- أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب وفي بعضها لإفادة الندب- لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفي ذلك ما عرف في علم الأصول وإنما تضعف دلالة الاقتران ضعفا إذا استقلت الجمل في الكلام ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين كما جاء في الحديث:«لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة» حيث استدل به بعض الفقهاء على أن اغتسال الجنب في الماء يفسده لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه والله أعلم.
.باب الجنابة: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت, فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟», قال: كنب جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة, فقال: «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس».الجنابة دالة على معنى البعد ومنه قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وعن الشافعي أنه قال: إنما سمي جنبا من المخالطة ومن كلام العرب: أجنب الرجل إذا خالط امرأته.قال بعضهم: وكأن هذا ضد للمعنى الأول كأنه من القرب منها وهذا لا يلزم فإن مخالطتها مؤدية إلى الجنابة التي معناها البعد على ما قدمناه.وقول أبي هريرة: (فانخنست منه) الانخناس: الانقباض والرجوع وما قارب ذلك من المعنى يقال: خنس لازما ومتعديا فمن اللازم: ما جاء في الحديث في ذكر الشيطان: «فإذا ذكر الله خنس» ومن المتعدي: ما جاء في الحديث: «وخنس إبهامه» أي قبضها وقيل: إنه يقال أخنسه في المتعدي ذكره صاحب مجمع البحرين.وقد روي في هذه اللفظة: «فانبجست منه» بالجيم من الانبجاس وهو الاندفاع أي اندفعت عنه ويؤيده قوله في حديث آخر: «فانسللت منه» وروي في هذه اللفظة أيضا: «فانبخست منه» من البخس وهو النقص وقد استبعدت هذه الرواية ووجهت- على بعدها- بأنه اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصاحبته مع اعتقاده نجاسة نفسه هذا أو معناه.وقوله: (كنت جنبا) أي كنت ذا جنابة وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ واحد قال الله تعالى في الجمع: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقال بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إني كنت جنبا وقد يقال: جنبان وجنبون وأجناب.وقوله: (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) يقتضي استحباب الطهارة في ملابسة الأمور العظيمة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رد ذلك لأن الطهارة لم تزل بقول: «إن المؤمن لا ينجس» لا ردا لما دل عليه لفظ أبي هريرة من استحباب الطهارة لملا بسته صلى الله عليه وسلم وفي هذا نظر.وقوله: «سبحان الله» تعجب من اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة.وقوله: «إن المؤمن لا ينجس» يقال: نجس ونجس ينجس- بالفتح والضم-.وقد استدل بالحديث على طهارة الميت من بني آدم وهي مسألة مختلف فيها والحديث دل على أن المؤمن لا ينجس فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن والمشهور التعميم وبعض الظاهرية: يرى أن المشرك نجس في حال حياته أخذا بظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ويقال للشيء: إنه نجس بمعنى أن عينه نجسة ويقال فيه: إنه نجس بمعنى أنه متنجس بإصابة النجاسة له ويجب أن يحمل على المعنى الأول وهو أن عينه لا تصير نجسة لأنه يمكن أن يتنجس بإصابة النجاسة فلا ينفي ذلك.وقد اختلف الفقهاء في أن الثوب إذا أصابته نجاسة: هل يكون نجسا أم لا؟ فمنهم من ذهب إلى أنه نجس وأن اتصال النجس بالطاهر موجب لنجاسة الطاهر ومنهم من ذهب إلى أن الثوب طاهر في نفسه وإنما يمتنع استصحابه في الصلاة بمجاورة النجاسة.فلهذا القائل أن يقول: دل الحديث على أن المؤمن لا ينجس ومقتضاه: أن بدنه لا يتصف بالنجاسة وهذا يدخل تحته حالة ملابسة النجاسة له فيكون طاهرا وإذا ثبت ذلك في البدن ثبت في الثوب لأنه لا قائل بالفرق.أو يقول: البدن إذا أصابته النجاسة: من مواضع النزاع وقد دل الحديث على أنه غير نجس وعلى ما قدمناه- من أن الواجب حمله على نجاسة العين- يحصل الجواب عن هذا الكلام.وقد يدعي أن يقولنا الشيء نجس حقيقة في نجاسة العين فيبقى ظاهر الحديث دالا عن أن عين المؤمن لا تنجس فتخرج عنه حالة النجس التي هي محل الخلاف.2- عن عائشة رضي الله عنها قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل ثم يخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده».3- وكانت تقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد نغترف منه جميعا.الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها من وجوه:أحدها: قولها: (كان إذا اغتسل من الجنابة) يحتمل أن يكون من باب التعبير بالفعل عن إرادة الفعل كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ويحتمل أن يكون قولها: (اغتسل) بمعنى شرع في الفعل فإنه يقال: فعل إذا شرع وفعل إذا فرغ فإذا حملنا اغتسل على شرع صح ذلك لأنه يمكن أن يكون الشروع وقتا للبداءة بغسل اليدين وهذا بخلاف قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] فإنه لا يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة وقتا للاستعاذة.الوجه الثاني: يقال كان يفعل كذا بمعنى أنه تكرر منه فعله وكان عادته كما يقال: كان فلان يقري الضيف و«كان رسول الله صلى الله عليه أجود الناس بالخير» وقد يستعمل كان لإفادة مجرد الفعل ووقوع الفعل دون الدلالة على التكرار والأول: أكثر في الاستعمال وعليه ينبغي حمل الحديث وقول عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل).
|